كتاب: الحجاج وشرعنة الخطاب السياسي

كتاب : الحجاج وشرعنة الخطاب السياسي

حتى يكون «القولُ» سَبيلا للحياة

 

كان لا بد من أن يهدأ صخب المعارك على الأرض وتخفت أصوات البروباغندا السياسية والإعلامية، حتى يتسنى للتحليل العلمي الأكاديمي أن يشتغل بعيدا عن أي تأثير، ويستفيد من المعطيات والبيانات، ويستكمل عناصر الصورة. فقد سعى جورج بوش الابن إلى «بيع» قرار الحرب للشعب الأمريكي موظفا كل وسائل الإقناع المشروعة وغير المشروعة لإتمام هذه الصفقة. وإلى حد الآن لا يزال الغموض يلف قرار حرب طاحنة استمدت مشروعيتها من الشعب الأمريكي ومؤسساته الديمقراطية، وآذت كثيرا الشعب العراقي وحضارته الممتدّة.
لقد تحرك أكبر جيش في العالم تحت غطاء خطة حجاجية وإعلامية منظمة ومحكمة، بحجة «نزع أسلحة الدمار الشامل» و»تحرير الشعب العراقي» والغاية «ثروة العراق النفطية» و»المكاسب الاستراتيجية والسياسية». وقد جاء كتاب «الحجاج وشرعنة الخطاب السياسي» ليكشف عن استراتيجيات تلك «الخطة الحجاجية» ويبرز طرق الإقناع ومسالك التأثير في فئات كثيرة من الشعب الأمريكي والرأي العام العالمي… ودون شك، لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، ولا يمكن تجنب حرب لا يزال الشعب العراقي يعاني من تبعاتها، كما لا يزال العالم يحصد آثارها إنسانيا واقتصاديا وأخلاقيا. لكن يمكن تجنب حروب أخرى مشابهة، ويمكن العمل على توسيع قاعدة المعارضين للحروب، ومؤيدي السلام عبر العالم. وإذا استحال على معارضي الحروب امتلاك جبروت الآلة العسكرية الفتاكة، فإنه من العيب ألا يمتلكوا حججا مقنعة تدحض قرار الحرب وتبرز تهافُته؛ ذلك لأن الإنسان لم يكن يوما متميزا بالفتك وبشاعة القتل، بل تميّزه في لسانه وعقله وقوة حجاجه… فمن «العبث ألا يتمكن الإنسان من الدفاع عن نفسه بالكلمة، إذ بها لا بالقوة العضلية يتميز الإنسان».
إن كتاب «الحجاج وشرعنة الخطاب السياسي» يعلمنا مسالك بناء الخطاب واستراتيجياته الحجاجية، كما يبين لنا حدّة سلاح القول حين يقود إلى الفتك، وحين يوظف بالشكل الخطأ في السياق الخطأ من طرف محترفي التمويه والمغالطة. ويقدم تحليلا حجاجيا لخطابات الرئيس بوش قبل الحرب على العراق وأثناءها. ومن خلال شرعنة الخطاب «وفق تصور يربط القول بالوقائع، ويحكم طرائق الاستدلال والحقائق، ويميز بين الحجج الحقيقية والزائفة، ومنطق التدليس وتدليس المنطق، وأنواع المغالطات». ويركز اهتمامه على الجوانب الاستدلالية والحجاجية التي قام عليها خطاب الرئيس بوش، باعتباره خطابا إقناعيا يسعى إلى شرعنة الحرب. وليس عملنا، يقول المؤلفان: «إلا جزءا يسيرا من تبعات الحرب، نضطلع فيه بتحليل الخطاب، ونقاربه بلاغيا وحجاجيا لاستكناه العبر والدروس، وإبراز سلطة القول، وعظمته ومفعوله وآثاره، كي يستعمل في الحق بدل أن يوظف في الباطل، ويُتّخذ سبيلا إلى الحياة عوض أن يكون طريقا إلى الممات».
الشرعنة: من المفهوم إلى الأبنية الاجتماعية
يعد مفهوم «الشرعنة» مفهوما بؤريا في هذه الدراسة، وتتحدد «الشرعنة» اجتماعيا باعتبارها «استجابة لتوقعات معايير نظام اجتماعي معين» وسياسيا بما هي سمة من سمات السلطة، وهي الاعتراف بحق التصرف؛ وتدور في فلكها مجموعة من المفاهيم منها: المشروعية التي تعد منتوجا قانونيا صرفا، والسلطة التي تعد الشرعنة الضامن لاستقرارها. وتمحيصا للمفهوم وتعميقا لإشكالاته يقف الباحثان عند «الأبنية الاجتماعية للشرعنة» خصوصا عند التعاقد الاجتماعي الذي هو أصل الشرعنة، والهوية الاجتماعية، ثم استراتيجيات الشرعنة وأنواعها ومصادرها.
الشرعنة بالاقتناع convicyion
كانت شرعنة الحرب هي الهدف الذي يسعى إليه بوش في خطاباته السياسية حول العراق، وهو ما يندرج ضمن ما يسميه بيرلمان بالحجاج الاقتناعي، ويمكن إدراجه ضمن الحديث عن الشرعنة بالاقتناع من خلال ثلاثة أنواع من الحجج: العقلانية، والمستقبل الافتراضي، والسلطة… حيث يعوّل الخطيب وهو يستند إلى «العقلانية النظرية» على ذكاء المخاطب وقدراته العقلية، وهو ما يمنح الخطاب عقلانية سعى إليها بوش بغرض شرعنة الحرب؛ من خلال:
  • وضع خطط مسبقة هي أفضل فرص النجاح: وهي استراتيجية تقدم نفسها كاستراتيجية شاملة يتدخل فيها ما هو سياسي وأمني واقتصادي، وتجعل عدوها واحدا محددا بدقة؛ وهو «النظام العراقي» ما من شأنه قبول خطط الحرب وجعلها عقلانية مقبولة أمام الرأي الداخلي والخارجي.
  • اختيار الأصح بين مسارين: حيث الاستباق أفضل من التمهل، فيصبح المسار نحو السلام لا يمر إلا عبر «الحرب». بينما اختيار السلام منذ البداية يمثل انحدارا نحو المأساة، حيث تنهل هذه الاستراتيجية من خلال عرض التقديرات والمآلات واختيار الأفضل منها.
  • استشارة مختلف الأطراف: وامتدت الاستشارة إلى هيئات مهمة مثل، الأمم المتحدة ومجلس الأمن والكونغرس، وحكومات الدول الصديقة؛ ما يجعل قرار الحرب سليما يحظى بالدعم الدولي؛ وهو مقدمة حجاجية قوية ليحظى بالدعم الداخلي الأمريكي.
  • الدفاع عن النفس: والتموقع في موقع الضحية فيدعي بوش أنه «يواجه عدوا يخفي قوته العسكرية خلف المدنيين، ولديه أسلحة فظيعة، وقادر على ارتكاب أي جريمة».
  • الحرب آخر خيار: بعد ذلك يبدي المحاجج استنفاد كل الإجراءات الممكنة ليجعل الحرب آخر خيار يُلجأ إليه، في مؤخرة سلم الحلول وتأخيره يمنح الرئيس الشرعنة دون أن يصرفه عن فعل الحرب.
  • حجج من الماضي: كما يستدعي كذلك «التعلم من التجارب والأحداث السابقة» كما في قول بوش «استخدم هذا النظام بالفعل أسلحة دمار شامل ضد جيران العراق وضد شعب العراق»… وبالإضافة إلى «العقلانية النظرية» الموظفة لشرعنة الأفعال، يستند الخطيب إلى «العقلانية الأداتية» فلا يتحقق التسليم، إذا لم تكن لهذه الأفعال غايات ووسائل تمثل سببا وجيها لشرعنتها، استنادا لعقلانية الأهداف والوسائل، ما يجعل فعل الحرب مقبولا وصائبا؛ وهو ما يمكن الاصطلاح عليه بضمان ما يمكن تسميته «عقلانية الحرب» ما يمكن أن يقويَ مكانة الخطيب في أعين المخاطَبين ويدفعه إلى التسليم بما يعرض عليه من أطروحات.
تُضاف الشرعنة بـ»المستقبل الافتراضي» إلى الشرعنة العقلانية، حيث تجمع بين الخطاب السياسي والمستقبل علاقة وثيقة؛ فالمستقبل من أهم مصادر الشرعنة لدى الساسة.. فتتجلى أهمية الخطابات السياسية في مدى تنبوئها بالمستقبل حسب فوكو، واتخذ الاستناد إلى المستقبل لدى فوكو أشكالا متعددة منها: وجود تهديد في المستقبل، القيام بتدابير استباقية ووقائية، استمرار الماضي السيئ في المستقبل، عرض رؤيتين للمستقبل، وتبني الرؤية الإيجابية منها.. فيُقدّم بوش «خطر النظام العراقي» باعتباره خطرا مستقبليا مُحْدقا، وباعتباره حقائق مقبلة وحتمية، وكان يردد دائما «إن الرد على الأعداء بعد أن يضربوا فهو ليس دفاعا عن النفس»؛ إنه انتحار بعبارة بوش.
ثم تأتي «الشرعنة بالسلطة» لتكمل ثالوث الشرعنة بالاقتناع المشار إليه سابقا، حيث يستند الخطيب إلى الشرعنة بسلطتي الشاهد والخبير، فالشاهد عانى الحدث بتفاصيله وجزئياته؛ والخبير يتمتع بمعرفة متخصصة تحمل المتلقي على الثقة والتصديق.. وهو ما تمثل في خطاب الرئيس الأمريكي الأسبق، من خلال استناده إلى «المفتشين الدوليين» التابعين للأمم المتحدة الذين يجمعون بين سلطة الخبرة وسلطة الشهادة، ما «يخلق لدى المتلقي حالة إذعان وانقياد يؤديان إلى الاقتناع». كما يلجأ كذلك إلى سلطة القانون الذي يعبر عن الإرادة العامة للمجتمع، خصوصا القوانين الدولية المتجسدة في هيئة الأمم المتحدة، وفي مجلس الأمن الدولي والقوانين الداخلية الأمريكية؛ كل ذلك استحضره الخطيب من أجل دفع المخاطبين إلى الاقتناع بأن «امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل» حقيقة معترف بها دوليا خارجيا وداخليا، وذلك من أجل الاقتناع بشرعنة القيام بعمل عسكري ضد العراق لتخليصه من هذه الأسلحة وإزالة التهديد. أما «الشرعنة بسلطة الامتثال للجماعة» فهي استراتيجية حجاجية يلجأ إليها الخطيب عند التوجه إلى الجمهور، فالسلطة المبررة لدعوى الخطيب تنبع من الإجماع الذي تحظى به بين الناس حتى تحقق هذه السلطة وظيفتين: دفع المخاطب إلى الفعل باعتباره سلوكا اجتماعيا.
عدم رفض المواقف الجماعية خوفا من الإقصاء الاجتماعي. وها هو يقول: «انضم إلينا الكثير من الدول.. في المعركة ضد الإرهاب العالمي.. إن ملايين الأمريكيين يصلّون معكم من أجل سلامة أحبتهم وحماية الأبرياء». فقد رأينا؛ يقول الكاتبان: «كيف يضخم الرئيس الأمريكي عدد الدول والأفراد المساندين للحرب، ويضفي عليهم ألقابا من قبيل المجتمع الحر والتحالف الدولي».
الشرعنة بالإقناع Persuation
وكما يستجيب الحِجاج لصوت العقل فإنه يتوجه كذلك إلى العواطف والأهواء؛ وقد خاطب بوش عواطف المخاطَبين ورغباتهم، موظفا حججا ذات طبيعة عاطفية مثل الإيثار والتقويم الخلقي والعاطفة.. فلما كان «الإيثار» شعورا إنسانيا يجعل الفرد ميالا إلى إسعاد الآخرين، يقدّم خلاله المصلحة العامة على المصلحة الشخصية. فقد حرص بوش على إظهار عناية بالآخرين والميل إلى التخفيف من معاناتهم، فيحدّد أهداف التحالف في أنها «واضحة ومحدودة، ستُنهي نظاما وحشيا.. حتى يتمكن العراقيون من العيش بأمان». وهو واجب أخلاقي يقدم خلاله الخطيب نفسه، إنسانا تأبى إنسانيته أن تجعله يقف موقف المتفرج؛ ما يجعل «قرار الحرب» قرارا إنسانيا نبيلا يجعل العالم يعيش في أجواء من الحرية والعدالة والأمل وحقوق الإنسان.. كما وظف بوش في خطاباته مجموعة من الموجهات التقويمية الخلقية مركزا على المشترك الإنساني، من خلال تحسين الأشياء والأفعال وتقبيحها لدى المخاطب، وتصنيف الأفراد في محاور؛ محور الخير ومحور الشر، حيث التقديم الإيجابي للذات والجماعة ضمن محور الخير وتصنيف الآخرين ضمن محور الشر. وفي مقدمة العواطف المستدعاة لتسويق قرار الحرب، عاطفة الخوف وعاطفة الشفقة؛ فسعى إلى شيطنة العدو لدفع المخاطبين إلى الاعتقاد بواقعية التهديد، كما استند إلى عاطفة الشفقة لشرعنة قرار الحرب، يقول مثلا: «لو فشلنا في العمل.. ستظل غرف التعذيب في العراق مليئة بالضحايا المرعوبين والأبرياء».. وهي شفقة يجب أن تتجاوز مستوى الإحساس إلى مستوى العمل، ليس فقط من أجل قبول الحرب في العراق، بل من أجل دعمها وإضفاء الشرعية عليها.
الشرعنة بالمغالطة
غالبا ما يسعى الخطاب السياسي إلى تحقيق المكاسب بغاية نفعية عن طريق التلاعب بعقول الأفراد وقلوبهم (Manipulation) باستعمال المغالطات المنطقية، خصوصا حين تعوزه الحجج للتبرير والشرعنة. ومن أبرز المغالطات التي وظفها بوش لتبرير قرار الحرب: مغالطة سرير بروكست/مغالطة الاحتكام إلى السلطة/ مغالطة التعميم المشرع/مغالطة المنحدر الزلق/ مغالطة القسمة الثنائية الزائفة/ مغالطة الاحتكام إلى الجهل/ مغالطة التهرب من عبء الدليل/ مغالطة الحجة الشخصية؛ وغيرها… فيمثل، مثلا، قرار الحرب على العراق سرير بروكست في خطابات بوش، حيث يُفصّل المعلومات والحقائق والمعطيات لتناسب مقاس القرار. أما الاستناد إلى مغالطة السلطة لشرعنة الحرب ودفع المخاطبين إلى قبولها فقد اتخذت أشكالا مختلفة مثل استدعاء سلطة متحيزة (الاستخبارات الأمريكية) واستدعاء سلطة مجهولة (أحد كبار مسؤولي البرنامج النووي العراقي) وسوء استخدام السلطة، خصوصا سلطة مجلس الأمن الدولي… ومغالطة التعميم المتسرع، حيث إن فشل بعض المجهودات لنزع أسلحة العراق ثم الحكم بفشل كل المجهودات التي يمكن القيام بها مستقبلا وكأن لسان حال بوش يقول: «أعطينا النظام العراقي فرصة لتجنب الحرب ولم يستغلها، فلم يتبق لنا سوى الحرب».
وفي الختام، فإن تشكيل جبهات لمواجهة الحروب عبر العالم يقتضي من مناصري السلم تفكيك خطاب العنف، وكشف الغطاء الحجاجي عن المعارك الطاحنة على الأرض.. وهو ما يراهن عليه الكاتبان في هذا الكتاب؛ حتى يكون القول طريقا للحياة وسبيلا لنشر الوعي والمحافظة على أرواح الأبرياء في ربوع المعمورة.. إن الإنسانية، من خلال الحروب المندلعة في بقع مختلفة عبر العالم، تنحدر بسرعة قصوى نحو مآس ممتدة… وليس غير «الكلمة» توقف هذا الانحدار وتحدّ من ذلك النزيف؛ غير أن تحكم مسوقي الحرب في الكلمة ومسالك التأثير من خلالها يجعلهم يتحكمون في الملاذ الآمن الأخير في وجه الحرب، ويسيطرون على آخر مساحات المقاومة لنزوعهم التدميري، وهو ما ينبه إليه كتاب «الحجاج وشرعنة الخطاب السياسي» على مدى أكثر من أربعمئة صفحة.